وهم النصر الزائف- كيف تستغل الزعامات العربية عواطف الجماهير؟

المؤلف: محمد الساعد11.15.2025
وهم النصر الزائف- كيف تستغل الزعامات العربية عواطف الجماهير؟
في غمرة سنة حافلة بالإخفاقات المتوالية في غزة ولبنان والحديدة، عاود الشارع العربي استحضار حالة "الهتيفة" التي عرفها بقوة في حقبتي الخمسينات والستينات الميلادية، ثم تجددت مع صعود صدام حسين في تسعينات القرن الميلادي المنصرم. هذه الحالة، التي يمكن وصفها بـ "الغيبوبة السياسية والعسكرية"، يتوهم فيها الجمهور أن من يؤيده يتمتع بقدرات عسكرية استثنائية وخارقة -على الرغم من غياب الإمكانات الحقيقية على أرض الواقع- قادرة على تحقيق آمالهم المنشودة في القضاء على أعدائهم المزعومين. دأب الخطباء السياسيون على تأجيج سقف توقعات الجماهير عبر وسائل الإعلام المتنوعة، من الإذاعات إلى الخطابات المباشرة، مقدمين وعوداً جوفاء وغير منطقية، كالإدعاء بقدرتهم على تدمير دولة بأكملها بلمسة زر، أو إلقاء الأعداء في عرض البحر، أو ترديد شعارات زائفة من قبيل "سندمرهم في سبع دقائق"، مع إيهام الجماهير بامتلاكهم أسلحة متطورة للغاية، أو حتى برامج نووية وجرثومية سرية. هنا تتضخم الأحلام بين الشعوب التي تعاني من الإحباط والإنهاك؛ جراء أزماتها الداخلية المتفاقمة، وتجد في أحلام النصر تعويضاً عن مرارة الاستبداد والفقر وتأخر التنمية المنشودة. لقد انخرط في هذا النمط من التضليل والترويج الكاذب كل من "حسن نصرالله" زعيم حزب الله، و"أبو عبيدة" الناطق باسم كتائب القسام، و"إسماعيل هنية" و"خالد مشعل" من حركة حماس. لقد تلاعب هؤلاء جميعاً بمشاعر الجماهير، واستخدموا الخطاب الديني تارة، وترويج الأحلام الوردية تارة أخرى، ثم أطلقوا وعوداً براقة للجماهير المتعطشة إلى رؤية هزيمة مدوية للخصوم، لكنهم لم يفوا بها قط، واكتفوا بالترويج لانتصارات وهمية، مثل الادعاء بأن بقاء الزعيم والتنظيم في السلطة هو الانتصار الأعظم. لقد تجسدت هذه الحالة لأول مرة مع خطابات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر -الذي اعترف على الأقل بالنكبة وحاول التغلب عليها- حينها خلق عبد الناصر وضعاً استثنائياً في الشارع العربي الذي كان تواقاً لزعيم ملهم بعد ظهور الدول العربية المركزية، خاصة مع خروج الإنجليز سلمياً، والفرنسيين بضغوط من الدول العربية. ابتكر كل من أسامة بن لادن، وحسن نصرالله، وأبو بكر البغدادي، عدوَّين رئيسيَّين وهم إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بهدف تعزيز مكانتهم في نظر أتباعهم، وبناء قاعدة جماهيرية عريضة تمكنهم من تحقيق طموحاتهم في الهيمنة على العالم العربي والإسلامي، كلٌّ على طريقته الخاصة. ولكن هذه الوسيلة، وإن بدت ناجعة في البداية، سرعان ما تحولت إلى فخ محكم، إذ أصبح مطلب الجماهير اليومي هو: متى تقضي أيها الزعيم الملهم على إسرائيل؟ ومتى سنرى الدبابات تجوب شوارع تل أبيب؟ كانت خطب عبد الناصر، على غرار خطب صدام وحسن نصرالله والسنوار، تستخف بالقوة الإسرائيلية، وتهدد بإلقاء دولة إسرائيل في البحر. بل إن الإذاعات كانت تمني الجماهير العربية بأن أم كلثوم ستحيي حفلاتها القادمة في تل أبيب، تماماً كما وعد محمد الضيف الجماهير بالسباحة على شواطئ تل أبيب، ووعد حسن نصرالله قواعده الشعبية باحتساء الأرجيلة في مقاهي الجليل الأعلى. لقد صدّقت الجماهير العربية تلك الخطب الرنانة وذلك التحريض المتواصل، وتبنت وسائل الإعلام العربية المنتشرة من القاهرة إلى دمشق وبيروت وبغداد وغيرها من العواصم تلك الخطابات، ووضعتها في صدر صفحاتها الأولى، مما ألهب الخيال الجمعي العربي وقاده إلى الهلاك النفسي لاحقاً، بعد أن صدم بالهزائم الكبرى المتتالية. اليوم تعيش جماهير تيار "الممانعة" -خاصة الجماهير التي راهنت على حزب الله وزعيمه حسن نصرالله- الحالة نفسها التي عاشتها الجماهير العربية بعد نكسة عام 1967، بل لقد تعرض المؤيدون للحزب من بغداد إلى رفح لصدمة شديدة إثر الإهانات المتتالية التي وجهتها إسرائيل للحزب المهزوم، بدءاً من اغتيال خمسة آلاف من كوادر حزب الله دفعة واحدة، عبر تفجير أجهزة البيجر، وليس انتهاءً بتصفية القيادات المتتالية للحزب في أكثر أماكنهم أماناً -الضاحية الجنوبية- وتحويلها إلى مقبرة جماعية، وأخيراً اختراق الحدود اللبنانية دون مقاومة، وتفجير مخازن السلاح وتدمير الأنفاق التي وعد حسن نصرالله أن يسير من خلالها لتحرير فلسطين. إنها قصة الجماهير العربية مع زعامات خطفت وجدانها بغير حق، نعم هي سلّمت عقولها وعواطفها لمن لا يستحقها، ولذلك وجدت نفسها متشرذمة منكسرة محبطة، فلا هي التي رمت إسرائيل في البحر، ولا هي التي عاشت بسلام!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة